الفــتوة


    قال ابن القيّم رحمه الله:
    من الفتوة ترك الخصومة , والتغافل عن الزلة , ونسيان الأذية , وهي من درجات الفتوة الأولى , وهذه الدرجة من باب الترك والتخلي ؛ وهي أن لا يخاصم أحداً , فلا ينصب نفسه خصماً لأحد غيرها فهي خصمه.
    فلا يخاصم بلسانه , ولا ينوي الخصومة بقلبه , ولا يخطرها على باله , هذا في حق نفسه.
    وأما في حق ربه ؛ فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله , ويحاكم إلى الله , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: ( وبك خاصمت , وإليك حاكمت ) , وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى.
    وأما التغافل عن الزلة ؛ فهو إنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها , أظهر أنه لم يرها لئلا يعرض صاحبها للوحشة ويريحه من تحمل العذر.
    وفتوة التغافل أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية ..

    وقيل: تزوج رجل بامرأة , فلما دخلت عليه رأى بها الجدري , فقال: اشتكيت عيني , ثم قال: عميت , فبعد عشرين سنة ماتت , ولم تعلم أنه بصير , فقيل له في ذلك , فقال: كرهت أن أحزنها رؤيتي لما بها , فقيل له: سبقت الفتيان.
    وأما نسيان الأذية ؛ فهو أنك تنسى أذية من نالك بأذى , ليصفو قلبك له , ولا تستوحش منه .. وأيضاً نسيانك إحسانك لمن أحسنت إليه , حتى كأنه لم يصدر منك , وهذا النسيان أكمل من الأول وفيه قيل:
ينسى صنائعه والله يُظهرهـا         إنَّ الجميل إذا أخفيته ظهــرا
    يذكر أن رجلاً نام من الحجاج في المدينة , ففقد همياناً فيه ألف دينار , فقدم فزعاً , فوجد جعفر بن محمد رضي الله عنهما فعلق به , وقال: أخذت همياني فقال: أي شيء كان فيه ؟ قال: ألف دينار , فأدخله داره ووزن له ألف دينار , ثم إن الرجل وجد هميانه , فجاء جعفر معتذراً بالمال , فأبى أن يقبله منه , وقال: شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبداً , فقال الرجل للناس: من هذا ؟ فقالوا: هذا جعفر بن محمد رضي الله عنهما.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Grants For Single Moms | تعريب وتطوير : باســـم .